فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في المقصود من قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ}]:

قال أبو مسلم قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} وإن كان بصيغة الاستفهام، إلا أن المقصود منه التقرير في النفس، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا: أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته.
أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره، فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم.
ثم زاده تأكيدًا بقوله: {وَهُوَ التواب الرحيم}.

.المسألة الثانية: [في قراءة قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ}]:

قال صاحب الكشاف: قرئ {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} بالياء والتاء، وفيه وجهان: الأول: أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم، أن الله يقبل التوبة الصحيحة، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية، والثاني: أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيبًا لهم في التوبة.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حكم بصحة توبتهم قال: «الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم» فنزلت هذه الآية.

.المسألة الثالثة: قوله: {هُوَ يَقْبَلُ التوبة}:

في فوائد:
الفائدة الأولى: أنه تعالى سمى نفسه هاهنا باسم الله.
ثم قال عقيبه: {هُوَ يَقْبَلُ التوبة} وفيه تنبيه على أن كونه إلهًا يوجب قبول التوبة، وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه، ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين، ويمتنع أيضًا أن يكون له شهوة إلى الطاعة، ونفرة عن المعصية، حتى يقال: إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام، بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة، هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء، ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة، فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح، وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل، فالمذنب لا يضر إلا نفسه، والمطيع لا ينفع إلا نفسه.
كما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فإن كان الإله رحيمًا حكيمًا كريمًا ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته، فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته.
فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق، وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره، كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل، أو لمعارض أو لمباين.
الفائدة الثانية: في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى.
فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه، وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيرًا كان أو شرًا.

.المسألة الرابعة: [في قبول التوبة]:

قالت المعتزلة: قبول التوبة واجب عقلًا على الله تعالى.
وقال أصحابنا: قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان، أما عقلًا فلا.
وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه: الأول: أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم، فلو وجب قبول التوبة على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقًا للذم، وهذا محال، لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملًا بفعل القبول، والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى محال.
الثاني: أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه، ويظهر له بسببه نقصان حال، أما من كان متعاليًا عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى، الثالث: أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية، ولو كان ذلك واجبًا لما تمدح به، لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم.

.المسألة الخامسة: {عَنْ} في قوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ}:

فيه وجهان: الأول: أنه لا فرق بين قوله: {عَنْ عِبَادِهِ} وبين قوله: {من عباده} يقال: أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك.
والثاني: قال القاضي: لعل {عَنْ} أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت، وأقول: إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة {عَنْ} على هذا المعنى، والذي أقوله إن كلمة {عَنْ} وكلمة من متقاربتان، إلا أن كلمة {عَنْ} تفيد البعد، فإذا قيل: جلس فلان عن يمين الأمير، أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله: {عَنْ عِبَادِهِ} يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعدًا عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه، وبعده عن حضرة نفسه، فلفظة {عَنْ} كالتنبيه على أنه لابد من حصول هذا المعنى للتائب.

.المسألة السادسة: قوله: {وَيَأْخُذُ الصدقات}:

فيه سؤال: وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ:
«خذها من أغنيائهم» يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى لما بين في قوله: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} أن الآخذ هو الرسول، ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى، كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى، والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام.
والجواب الثاني: أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس، وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ، ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم} [الأنعام: 60] وأضافه إلى ملك الموت، وهو قوله تعالى: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت، وهو قوله: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت، يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَيَأْخُذُ الصدقات} تشريف عظيم لهذه الطاعة، والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيبًا وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد» وقال عليه السلام: «والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله» ولما روى الحسن هذين الخبرين قال: ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْآخِذُ لِلصَّدَقَاتِ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَالنَّبِيُّ وَاسِطَةٌ، فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِلُهُ هُوَ الْوَاسِطَةُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ كَمَا قَالَتْ الْمُرْتَدَّةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ السَّائِلِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ».
وَكَنَّى بِكَفِّ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَبُولِ؛ إذْ كُلُّ قَابِلٍ لِشَيْءٍ يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ، أَوْ يُوضَعُ لَهُ فِيهِ، كَمَا كَنَّى بِنَفْسِهِ عَنْ الْمَرِيضِ تَعَطُّفَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ: «يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي» حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} يعني: ويقبل الصدقات.
ومعناه: وما منعهم عن التوبة والصدقة، فكيف لم يتوبوا ولم يتصدقوا؟ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده والصدقة؟ وروى أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الله يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ طَيِّبٍ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَصِيلَهُ أوْ مُهْرَهُ، حَتَّى تَكُونَ اللُّقْمَةُ مِثْلَ أحُدٍ» {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} يعني: المتجاوز لمن تاب الرحيم بالمؤمنين. اهـ.

.قال الثعلبي:

{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}
ومعنى أخذ الصدقات. قبولها.
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله عمله ولا يصعد الى السماء إلاّ طيّب إلاّ كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم». ثم قرأ: {أنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276]. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} قرأ جمهور الناس {ألم يعلموا} على ذكر الغائب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه {ألم تعلموا} على معنى قل لهم يا محمد {ألم تعلموا}، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق، والضمير في {يعلموا} قال ابن زيد: يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، وذلك أنهم لما تيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء؟ فنزلت هذه الآية، ويحتمل أن يكون الضمير في {يعلموا} يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولًا منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك، وقوله: {ويأخذ الصدقات} معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.
وقال الزجّاج: معناه ويقبل الصدقات، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه: «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل»، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة: «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل»، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد، فقد يحتمل أن تخرج لفظة {ويأخذ} على هذا، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعًا، وهذه نازلة هذه الآية، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم، واختلف هل تقبل توبة الجميع، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله، وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون- وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه- يقطع على الله بقول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم.
قال القاضي أبو محمد: ونحو هذا من القول، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب، وقوله تعالى: {عن عباده} هي بمعنى من وكثيرًا ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره. اهـ.